الجمعة، 31 يوليو 2009

إبراهيم عزت الذي فجرت تجربة المعتقل شاعريته فأنتج شعرا رائقا



نماذج تحليلية من شعر إبراهيم عزت

2003/11/29

عبد الله رمضان**


إبراهيم عزت الذي فجرت تجربة المعتقل شاعريته فأنتج شعرا رائقا

كانت لمعاناة إبراهيم عزت في المعتقل-الذي لبث فيه بضع سنين- أثرها في تجربته الشعرية؛ لذلك جاءت أكثر قصائد ديوانه تعبيرًا عن هذه المأساة في صورها المتعددة سواء معاناته الشخصية أو معاناة إخوانه من شباب الحركة الإسلامية، أو معاناة الوطن ذاته؛ لأن هذا الوطن سجين هو الآخر تحت قهر أولئك الجبابرة. يقول إبراهيم عزت في قصيدة بعنوان: حبيبتي بلادي:

حبيبتي

قد كنت أصنع الكلام من دمي

وكنت أعزف النشيد هامسًا

لعله إلى الفؤاد ينتمي

وكنت أكتب الحروف واحدا فواحدًا

لتقرئي.. لتفهمي

وكنت يا حبيبتي وكنت...

والآن يا حبيبتي

لن أكمل الحديث

وإن بدا مشوِّقًا

فليس ما أريده إثارة الطرب

أو أن تحركي الشفاه من دلائلِ العجب

ولن أتمَّ يا حبيبتي النغم

فقد رأيتُ ما يحرِّمُ النشيد

ألف عام

فصرت كلما بدأتُ في الغناء

أجهشتُ بالبكاء

لن أُمسك القلم

فالرعشة التي سرت في قلبيَ المنهوك

أصابت المواقع الخضراء بالعقم

فلم تعد تجيد غير نبضة الألم

لن أكمل الحديث يا حبيبتي

فشمعتي في ليلة الجفاء أُطفئت

وأكذب الأصوات في هواك

قد علت

وقصة الكلام كلها

قد انتهت

أي حب هذا الذي حمله الشاعر لهذا الوطن؟! لقد كان يصنع الكلام من دمه، ويصوغ الحروف من قطرات نفسه وروحه من أجل هذا الوطن الحبيب، لكن يحدث ما يمنع أهازيج الشاعر وأغاريده حيث يرى ما يحرم الغناء، وما هذا الغناء إلا الحرية الطليقة التي كان ينعم بها الشاعر مع هذا الوطن، فأصبح هذا الغناء محرما بقدرة خارجة عن إرادة الشاعر والوطن، إنها قدرة العسكر الذين يمتلكون السلاح، أما الشاعر فلا يمتلك إلا أشعاره. لكن ما يلبث الشاعر أن يستجمع قواه ومشاعره ليبدأ الغناء من جديد إلا ويغلبه البكاء، فالمواقع الخضراء أصابها العقم والشمعة التي تضيء أطفئت في ليلة الجفاء، لقد تلاشى النور لتحل محله الظلمة وتراجع الحق ليحتل مكانه الزيف الذي يدعي حب الوطن والوطن منه بريء:

حبيبتي

وكلهم بالأمس كان في الهوى متيما

حبيبتي

وأين هم؟!!

في ليلك الحزين

وأين يا حبيبتي الأمير زائرا؟

في الموكب الكبير..

يملأ الطريق بالعطور والزهور

يختال فوق صهوة الجواد

وأين يا حبيبتي غناء شاعرك؟

قد سال بحره منغمًا من بسمتك

وأين يا حبيبتي يمين عاشق

أتاك يسبق الرياح كي يُرَى بجانبك

ويسأل الشاعر عن الأمير/الحلم والأمل الزائر في موكب كبير يملأ الطريق بالعطور والزهور ويختال فوق صهوة الجواد، ويسأل كذلك عن غناء الشاعر الذي تلاشى بسبب القهر، ويسأل عن عاشق أو يمين عاشق أقسم بحب الوطن، كل هذه المفردات تكوِّن صورة حالمة يتمناها الشاعر لوطنه؛ لكن انقلبت هذه الصورة المشرقة إلى النقيض، فكان الخداع والبكاء:

خُدعت يا حبيبتي

بكت بكفك الجراح..

وارتوت بدمعك السفوح والجبال

ناحت رمالها

في ليلة الحداد حين زارها دمك

شكت سهولها

لوطأة البغي يستبيح حرمتك

نسيت في موائد الثناء

سيدًا تعشق الفداء

الموت عنده حياة

أحب دائمًا أن ترفع الجباه

وكفة الكلام عنده

نصف كفة العمل

أحب أن يراك مسجدًا

مقدسًا ثراه

لا ينال تربه

نسيته مقيدًا

شغلت عنه بالبريق

من سيطفئ الحريق غيره

ومن سيمسح الجراح إن جهلت سرَّهُ

الرعب يسبق الخطا لخصمه

وألف سهم للصدور

تقتدي بسهمه

وحفنة الرمال من يديه

تملأ العيون بالعمى

وسيفه بريقه صواعق

ستحفظ الحمى

نحن إذن أمام صورتين متقابلتين، أو قيمتين متناقضتين: قيمة الزيف وما يمتلكه من أدوات القهر والإرهاب والبطش والجبروت، وقيمة الصدق وما يمتلكه من حب فياض ومشاعر مخلصة.

وإذا جاز لنا أن نبحث عن معادلات هذه الصور في الواقع فإننا نقول: إن الثورة بشرت بآمال عريضة تفاءل الناس بها خيرا لكن هذه الآمال لم تلبث أن تلاشت بعدما انحرفت الثورة عن أهدافها وتحكم في الوطن بعض المنتفعين فأذاقوه من الويلات الكثير، وقد صدق الناس كثيرا من زيف هؤلاء وهو ما يمكن أن نفهمه من قول الشاعر:

خُدعت يا حبيبتي

بكت بكفك الجراح..

.........

نسيت في موائد الثناء

سيدًا تعشق الفداء

وفي الجانب الآخر من المعادلة، أو الوجه الآخر من الصورة يرى الشاعر نفسه وإخوانه من أفراد الحركة الإسلامية محبين مخلصين لهذا الوطن لكنه تنكر لهم أو تنكر حاكموه لهم، ورغم ذلك فإن الشاعر لا يستسلم لهذه الأهوال بل يقابلها بالرجاء والأمل الذي يراه في الأفق مطلا باسما:

حبيبتي

ولم تزل في أفقنا بَقيَّةٌ من الرجاء

حطِّمي قيوده

لتحتمي بسربه

لتصنعي حياتنا به

لتسمعي دعاءه.. بكاءه

يستمطر السماء زَادَهُ.. ونَصْرَهُ

ويستغيث ربَّهُ

فحطِّمي قيوده

وفي قصيدة أخرى بعنوان "اليوم عيد" يقيم الشاعر مفارقة بين صورتين متقابلتين تجعلنا نتعاطف معه ونشاركه أحزانه وآلامه؛ فالمناسبة المشتركة بين الصورتين هي يوم العيد، وهو يوم الفرحة والرحمة والود والتسامح والسلام والأمان، وكل هذه المعاني المشرقة عاشها الشاعر ويحكيها لنا فيما يشبه الارتداد أو الـ"فلاش باك":

اليوم عيد

قد عشت فيه ألف قصة حبيبة السمات

أردد الأذان في البكور

أراقب الصغار يمرحون في الطريق كالزهور

وهذه تحية الصباح

وهذه ابتسامة الصديق للصديق

والسلام

يبسط اليدين يرسل الندى

ويملأ الحياة بالأمان

وخضرة الزروع غضة الجنى

تجمعت أمام مسجد الإمام

وأطيب الثمار تطلب الكبار

هدية يحبها الصغار

تحبها صغيرتي

ما أطيب الزمان يا أحبتي

إن عانق الأمان

زماننا ربيعه الأمان

لكن.. الوضع الحقيقي في حاضر الشاعر على خلاف هذه اللوحة الجميلة الوادعة لأن:

الكل عائد بفرحة تطل مشرقة

من الشفاه والعيون

ودارنا ستنتظر

صغيرتي ستنتظر

والشرفة التي على الطريق تسمع الصدور..

تعزف الأشواق تعصر الأسى

هشام لن ينام

قد كان نومه على ذراع والده

نهادُ لن تذوق زادها

لأنها تعودت أن تبدأ الطعام من يد الأسير

شريكة الأسى بدا جناحها الكسير

تخبّئ الدموع عن صغارها

وحينما يلفها السكون

سترتدي الصقيع..

كي تقدم الحياة للرضيع

في هذه اللوحة لا نشعر بالأمان الذي ظلل اللوحة الأولى، حيث يسيطر على هذه اللوحة عنصر الفقد والبعد وهو ما ينعكس على دار الشاعر وصغاره الذين لن يناموا ترقبا لعودة الأسير الذي غيبته الأسوار، ورغم قسوة هذه المفارقة بلوحتيها المتقابلتين فإن الشاعر يفتش في ذات نفسه عما يجدد الأمل لديه فيجد حب أهله وأولاده في قلبه فيصر على أنه:

ما زال يومنا ويومهم

لأننا نحبهم

اليوم عيد

قد لا تسمح هذه العجالة بالحديث عن شعر إبراهيم عزت بالتفصيل الذي يستحقه لكن يمكننا أن نقول إنه بحق شاعر متميز امتلك أدوات الشعر ووظفها بمهارة ما كان منها من أصيل تراثنا أو من حديث ثقافتنا، وكانت تجاربه الشعرية نابعة من معاناة حقيقية أكسبت أشعاره الصدقين: الصدق الفني، والصدق الواقعي.

اقرأ في الموضوع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق